حسناً فعلت رئاسة مجلس الوزراء بطرحها مشروع تعديل قانون الاستثمار للنقاش العام.. فأياً كانت الملاحظات المثارة حول المشروع المقترح، وطريقة عرضها وشرحها للأفكار المراد إيصالها، فإن المكسب سيكون مع رئاسة مجلس الوزراء لسببين:
-الأول أنها ستحصل على ملاحظات وأفكار من خارج صندوق تفكير الوزارات والمؤسسات المعنية، وبعضها قد يقدم قيمة مضافة حقيقية للخروج بمشروع تعديل متطور لقانون الاستثمار يلبي احتياجات المرحلة القادمة..
-السبب الثاني يتمثل في سحب كل الذرائع التي يمكن أن تطرح بعد استكمال المشروع للأسباب القانونية لصدوره، إذ ليس هناك حجة لأحد ليقول إنه لم يتمكن من الاطلاع على التعديل المقترح ومناقشته…
في المقابل… هذا يحتم على رئاسة الوزراء أن تواكب كل الحوارات والنقاشات الدائرة حول المشروع المقترح، وتناقش كل ما يطرح بانفتاح.. حتى لو كانت الحاجة تقتضي بتنظيم مؤتمر خاص أو ورش عمل متخصصة تعقد لهذه الغاية مع الاقتصاديين ورجال الأعمال والمهتمين..
بالانتقال إلى مشروع القانون المقترح، فإن هناك ملاحظات عدة تثار، بعضها قديم منذ الشروع بإعداد المرسوم 8 لعام 2007، وبعضها حديث يتعلق باتجاهات التفكير حول طرق التعاطي مع الملف الاستثماري..
في الملاحظة الأولى، التي يمكن أن تسجل على المشروع المقترح، يحضر النقاش حول الجدوى من الاستمرار في القبول بمبدأ التعددية التشريعية والإجرائية الخاصة بمنح تراخيص الاستثمار، إذ أن المشروع الجديد لا ينطلق من ضرورة توحيد المرجعية القانونية للنشاط الاستثماري في سورية، وإنما يرسخ فكرة تعددية الجهات والمؤسسات المسؤولة عن الملف الاستثماري من السياحة إلى الصناعة… وغيرها.
عندما كان النقاش على أشده أثناء إعداد المرسوم رقم 8 كان الاتجاه نحو توحيد المرجعيات القانونية والتشريعية تحت سلطة قانون الاستثمار، لكن بعض الوزراء الذين كانوا يقيسون الأمور على مقاس صلاحياتهم وسلطتهم وقفوا في وجه المشروع وأفشلوا ذلك التوجه، ويبدو أن هذا ما يحدث اليوم أيضاً للأسف..
لذلك أعتقد أن رئاسة مجلس الوزراء معنية بإعادة طرح هذه الفكرة للنقاش من جديد، وعدم الإسراع في حسمها قبل أن تتأكد من موضوعية كل المبررات والأسباب..
الملاحظة الثانية تتعلق بما يمكن تسميته “تعطيل” دور الهيئة السورية للاستثمار وتحويلها إلى مجرد مكتب استعلامات أو مديرية مراسم، في حين أن فكرة إحداثها على خلفية تقييم عمل المكتب الأعلى للاستثمار جاءت لتوجيه العملية الاستثمارية نحو أولويات التنمية، الإشراف والمتابعة والرقابة على المشاريع الاستثمارية لضمان حسن عملها وتحقيقها للأهداف والجدوى المقدمة، تقليص إجراءات منح التراخيص واختصار الوقت اللازم لذلك، الترويج للفرص الاستثمارية داخليا وخارجيا…الخ.
وهنا تثار ملاحظة أخرى مرتبطة باستقلالية الهيئة، التي انتقلت تبعيتها في المشروع الجديد من رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الاقتصاد، وهذا يناقض كل المطالبات المعلنة قبل سنوات الحرب، والتي وصلت إلى مرحلة اقتراح ربط الهيئة برئاسة الجمهورية لضمان حصولها على صلاحيات أوسع وأعمق تضمن تسهيل أمور المستثمرين، وتجاوز كل الصعوبات والمشاكل المعروفة.. فكيف الحال والبلاد في زمن الحرب!!.
طبعاً.. هذه الملاحظة ليس لها علاقة بمن يشغل اليوم منصب وزير الاقتصاد أو من سيشغله غداً، لكن استقلالية هيئة الاستثمار تقتضي فعلاً أن تكون كهيئة تخطيط الدولة مثلاً، فإذا كانت هيئة التخطيط هي العقل الفني للدولة، فإن هيئة الاستثمار هي بمنزلة المحفظة الاستثمارية للبلد..
في ضوء ذلك، هناك ثمة شكوك في قدرة الدولة على توجيه الاستثمارات الخاصة نحو الأولويات التنموية القطاعية والجغرافية التي تقرها المؤسسات المعنية، فتحرير التسهيلات والإعفاءات وعدم ربطها بمحددات ومعايير خاصة من شأنه تكرار عثرات القانون رقم 10، فمن غير المنطقي إقناع المستثمرين بالتوجه إلى المنطقة الشرقية مثلاً أو الجنوبية إذا كان ما سيحصلون عليه من تسهيلات ومزايا تشابه أو تطابق تلك التي سيحصلون عليها فيما لو توجهوا للاستثمار في دمشق وريفها مثلاً..!!.
وهذا ينطبق أيضاً على القطاعات الاستثمارية من الصناعة، إلى الزراعة، فالنقل، والسياحة…الخ.
لا بل إن المشروع لا يضع معايير وأسس تساعد على التمييز بين المستثمر الجدي وغير الجدي، والتفريق بين مشروع استثماري وآخر
وهذه جميعها مهام كان يجب أن تناط بهيئة الاستثمار السورية، وإلا فلا داع لوجود هيئة وطنية، إذ يكتفى في مثل هذه الحالة بالجهود الفردية لكل وزارة في مجال نشاطها واختصاصها..
هناك ملاحظات أخرى كثيرة تثار حول مضمون المشروع المقترح.. بعضها قيد يكون محقاً في الطرح والنقاش، وبعضها الأخر ينطلق من رؤية مسبقة ترفض كل شيء.
ولذلك لابد من دخول جميع الوزارات والمؤسسات المعنية في حوار ونقاش عميق مع كل الشرائح والفئات المستهدفة والمعنية بقانون الاستثمار، من الفعاليات الاقتصادية الخاصة، إلى الاقتصاديين وأساتذة الجامعات، فالوزراء والمسؤولين السابقين، ومراكز الأبحاث والدراسات، وحتى وسائل الإعلام المحلية.
باختصار.. يجب التريث وعدم الاستعجال في إصدار أي تعديل على قانون الاستثمار، فالاستقرار التشريعي في المرحلة القادمة هو المرادف لاستعادة سورية أمنها وأمانه