16-11-2018
إذاً مع نهاية العام الحالي سيصار الى اعتماد المسودة النهائية للبرنامج التنموي لسورية ما بعد الحرب، ونستطيع القول بكل تأكيد إنّ سورية بالفعل تعلم الى اين تسير في مرحلة ما بعد الحرب – مثلما أوضح وعبّر بالأمس السيد رئيس مجلس الوزراء المهندس عماد خميس في اجتماع اللجنة التنسيقية لذلك البرنامج التنموي الشامل –
ففي الحقيقة إنَّ من يطّلع على الخطوط العريضة، التي كانت قد وُضِعَتْ كآليّة للبرنامجٍ الوطني التنموي الشامل، لـ ( سورية ما بعد الأزمة ) يدرك جيداً وببداهة أن سورية تعرف إلى أين تسير.
تحدي كبير تواجهه الحكومة في هذه الأثناء أمام عملية إعادة الإعمار، التي تُشكّل هاجساً حقيقياً وضاغطاً عليها، حيث أخذت الكثير من النقاشات والمداولات حول متى يكون البدء ..؟ ومن أين ..؟ وكيف ..؟ ولم يكن الأمر بتلك السهولة، فالحرب لا تزال قائمة، وما لا يحتاج إلى إعادة إعمار، قد يصير بعد حين بحاجة إلى ذلك، والمناطق التي لا تزال غير آمنة من الصعب حالياً معرفة احتياجاتها، هكذا كانت الأمور على رمالٍ متحركة، وإن كانت قد تبلورت الآن إلى حدٍّ كبير، فإن بعضها لا يزال غامضاً.
فطوال السنوات الماضية من الحرب، كان الوضع هكذا ضبابياً، وكنّا نعتقد أنّ الحكومة تنتظر اتّضاح الأمور وحسمها على الأرض، كي تبدأ بالبحث وتحديد ماذا يمكن أن تفعله..؟ ولكن في الواقع فإن الوضع لم يكن كذلك، فالجهود لم تهدأ في هذا الإطار، ولم تتوقف الحكومة عن البحث والتنقيب، عن كيفية إعادة الإعمار، ووضع الخطط المختلفة، الافتراضية والواقعية، الكفيلة بالبدء السريع بعملية إعادة الإعمار، فور القدرة على ذلك، وقد رأينا كيف اندفعت الجهات الحكومية وبدأت فعلياً بإعادة الإعمار، وهذا الاندفاع لم يكن هكذا ارتجالياً ولا متسرّعاً، بل كان مستوحى من تلك الخطوط العريضة، الموضوعة للبرنامجٍ الوطني التنموي الشامل، لـ ( سورية ما بعد الأزمة ) وهي في الواقع آلية مُثيرة للتفاؤل والاطمئنان، وليست وليدة اليوم، وإنما كانت رئاسة مجلس الوزراء قد اعتمدتها منذ نحو عامين، وتماماً في الثامن من شباط عام 2017 وهي تُشبه السباق مع الزمن، وتضعنا أمام الإطار العام لما يمكن فعله، دون الانتظار إلى نهاية مطاف الحرب على الإرهاب، الذي نأمل بانتهائه قريباً..
وتُشير تلك الآلية إلى أنه بعد سنوات من الآثار التي خلفتها الحرب على سورية التي طالت مختلف مكونات التنمية، وأدت إلى تدمير البنى التحتية، والممتلكات العامة والخاصة، وحتى القدرات البشرية، لا يزال الاقتصاد السوري صامداً، وقادراً على الإنتاج، ولا تزال مؤسسات الدولة صامدة، تدافع عن الهوية السورية، مصدر الاعتزاز الكبير للشعب السوري، وذلك على الرغم من تبعات الإرهاب، الذي تعرضت له البلاد، والتدابير القسرية الأحادية الجانب، التي أسهمت في تعميق آثار الحرب على الاقتصاد، والمجتمع والتنمية عموماً، ويشهد صمود هذه المؤسسات على قوتها وقدرتها الكامنة، على التعامل مع أعتى الظروف، ويعزز الثقة بقدرتها على إعادة إنتاج مكونات التنمية، وإعادة المجتمع والاقتصاد السوري إلى المسار الصحيح.
الآليّة التي وضعتها هيئة التخطيط والتعاون الدولي، وأقرّتها رئاسة مجلس الوزراء، تُقرّ بوجوب رسم خططنا الخاصة التي تتناسب مع الواقع السوري، دون أن يعني ذلك إهمال الاستفادة من الدروس المستقاة من تجارب أخرى.
وفي بيئة ديناميكية متحركة، كما هو واقع الحال في سورية اليوم، يكون أثر الخطط والقوالب التخطيطية الجامدة محدود جداً، وهذا ما يقتضي اتّباع نماذج تخطيطية أكثر إبداعاً وديناميكية، أي التفكير بإجراءات التخطيط والتنفيذ، في بيئة واقعية ديناميكية متحركة، مع الأخذ في الحسبان التغيرات الناتجة عن أي أحداث غير متوقعة، تقع أثناء إجراءات تنفيذ الخطط.
هذا وانصبت الجهود الحكومية خلال سنوات الحرب، على الأولويات التي استدعتها طبيعة المرحلة، فالاستجابة لاحتياجات الصمود، والحفاظ على نسق الخدمات، وتخفيف الأثر عن المواطنين، كانت كلها المقومات التي ساهمت في الحفاظ على سورية وطناً للجميع، ومن جهة أخرى كان لتمسك السوريين بهويتهم واستمرارهم في العيش ومواصلة حياتهم، على الرغم من جميع الأعباء والمصاعب، دور بارز في التعامل الإيجابي مع الحرب، ولا يمكن أن يكون صمود الدولة السورية في وجه الحرب من قبيل المصادفة أو الاستجابة العفوية لمفرزاتها، بقدر ما يبدي وعياً بأبعاد وأسس مواجهتها، ومن هنا تبرز أهمية تأطير تخطيط إدارة الحرب، وبناء مقاربة دقيقة لقراءة الحكومة السورية المتأنية لتخطيط مراحل الانتقال إلى ما بعد الحرب.
وتتقدم العديد من الجهات المعنية والمتابعة للشأن السوري بمشاريع وخطط ترسم ملامح المشهد السوري للمرحلة المقبلة، كما تأخذ الكثير من الجهات على الحكومة السورية عدم وجود عنوان واضح لنظرة الحكومة إلى الهوية الاقتصادية والاجتماعية في المرحلة المقبلة، لذلك يأتي هذا المقترح وعنوانه (البرنامج الوطني التنموي لسورية في ما بعد الأزمة) ليظهر عند إعداده بالتعاون مع الشركاء الوطنيين المعنيين، وجهة نظر الحكومة السورية، وخططها الواعية والهادفة لرسم المشهد السوري في المرحلة المقبلة.
وتستدعي الظروف السورية، بأوجهها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بدء التخطيط للتحول من مرحلة الاستجابة للاحتياجات إلى مرحلة إطلاق تدريجي للعملية الإنتاجية، لتعزيز مقومات الصمود والعيش كمرحلة أولى باتجاه إعادة الاقتصاد والمجتمع السوريين إلى المسار التنموي الصحيح القائم على نهج تنموي جديد يتخذ من (النمو التشميلي) أو التضميني Inclusive Growth والتوازن التنموي قطاعياً وجغرافياً، منطلقات أساسية له.
فعلى الصعيد الأمني، ترى الحكومة أنّ تسارع الخطوات في إعادة الأمن والأمان إلى أجزاء واسعة من المناطق السورية، تستدعي تسارعاً مماثلا، في الاستفادة من مكامن الإنتاج المتاحة، وتوفير مقومات إعادة المهجرين والنازحين، واستيعابهم في عملية الإنتاج وإعادة البناء.
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تزال العديد من مكامن الإنتاج القطاعية معطلة، لكن الحكومة ترى بأنها قابلة للاستثمار، مع وجود فجوة في الاحتياجات من هذه المكامن، وتستدعي الضغوط المتسارعة الناجمة عن بدء عودة المهجرين، الانتقال إلى الاستغلال التدريجي لقطاعات إنتاج السلع والخدمات وصولاً إلى استغلالها على الوجه الأمثل.
وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي، تعتبر الحكومة السورية أنّ الوضع العام الذي فرضته الحرب على سورية، يستدعي ضرورة معالجة تداعيات الأزمة على المستوى الاجتماعي وتطوير منظومة الحماية الاجتماعية وتمكين الأسر والأفراد وتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ قيم المواطنة، وتشجيع وتنظيم ظهور بنى ثقافية جديدة قادرة على استيعاب مختلف أطياف الحراك الثقافي في بوتقة وطنية واحدة.
وتوضح الحكومة في هذا البيان أنّ البرنامج المُنتظر يقوم على تحقيق أهداف عامة كالتأكيد على الملكية الوطنية لمستقبل سورية والتخطيط له وعلى استمرارية مؤسسات الدولة واضطلاعها بمسؤولياتها وقدرتها على توجيه مواردها وإمكاناتها على النحو الذي يحقق مصالحها الوطنية، بطريقة علمية ومنهجية، والتحول من الجمود التنموي الذي فرضته الأزمة، إلى إطلاق تدريجي لطاقات المجتمع والاقتصاد، وصولاً إلى النهوض بجميع مكونات التنمية الاقتصادية والمجتمعية، قطاعياً وجغرافياً، بالإضافة إلى تعزيز قدرة وكفاءة المؤسسات السورية في تنفيذ البرنامج، وتعزيز العدالة الاجتماعية، والتماسك الاجتماعي والانتماء والهوية الوطنية، ورفع مستوى الوعي المجتمعي المنسجم مع القيم الوطنية، وتعزيز الحوار الوطني والتعددية السياسية، كما يرمي البرنامج إلى تحقيق أهداف محددة تتفق مع توجهات كل مرحلة .
وتمر عملية الانتقال من الوضع الراهن إلى سورية ما بعد الحرب ، بمراحل رئيسية دون أن يعني ذلك عدم وجود تداخلات بين هذه المراحل، وفق ما تفرضه ظروف الحرب وتطوراتها.
وتمتد عملياً حتى انتهاء الحرب على سورية، ويكون التركيز فيها على الاستجابة للاحتياجات الأساسية وتوفيرها، عن طريق نشاطات مدروسة جيداً، يمكن استخدامها كقاعدة لتعزيز العملية الإنتاجية، وتأهيل البنى التحتية، وتقدير الخسائر والأضرار، للحدّ من آثارها، وجمع المعلومات لوضع وتعديل السياسات والخطط، بحيث تتوافق مع المعطيات الجديدة على الأرض، ويستمرّ الاهتمام بالمتطلّبات الإنسانية في مختلف مراحل البرنامج طالما بقيت الحاجة إليه قائمة.
يجري في هذه المرحلة التركيز على نشاطات (إعادة الإعمار) بمفهوم إعادة تأهيل البنى التحتية بوجه خاص، وتكريس مفهوم بواكير التعافي، وتتحدد نقطة بدء وانتهاء هذه المرحلة جغرافياً وفق التطورات الجغرافية للأزمة، ومن ثمّ تحدَّد مدتها تبعاً لذلك، وتكون نهايتها مرهونة بتوافر الظروف المناسبة لانطلاق المرحلة التالية وفي هذه المرحلة يجري البدء حيث أمكن بتوفير الاحتياجات اللازمة استناداً إلى حجم الأضرار، التي منيت بها البنى التحتية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والإمكانات المتاحة.
وتهدف هذه المرحلة إلى (استعادة التوازن) وذلك بوقف النزيف الحاصل، باستخدام جميع وسائل التمويل الخارجية والداخلية المتوافرة ( التسهيل الكمي أو التمويل بالعجز ) وإن كان بطريقة لا تتناسب مرحلياً مع مقتضيات استدامة التنمية، فعندما تهدأ الأمور – تقول الحكومة – لن يكون لدينا، في البداية، الوقت الكافي لإعادة ترتيب مصادر الإنتاج المادي والمعنوي بقدر حاجتنا إلى تسييل الإنتاج، أي تحويل الإنتاج إلى أموال سائلة بسرعة كبيرة لترميم فجوة التمويل، ولوقف النمو الواسع لظاهرة التضخم، من منظور الفجوة بين العرض والطلب الكليين، وذلك بهدف تمويل تنفيذ البرنامج تمويلاً سليماً.
ويبقى التشابك القطاعي في حدوده الدنيا، إذ إنّ الأولوية هنا هي للحصول على الإيرادات بأسرع ما يمكن.
وتزامناً مع تراكم مستوى مقبول من القيمة المضافة، سيجري تدريجياً العمل على ترميم سلاسل الإنتاج، بدءاً بالأقل تكلفة، والأكثر إلحاحاً، باتجاه الأعلى تكلفة والأقل إلحاحاً، بحيث تتم إعادة إحياء أقل مصادر خلق القيمة تضرراً، وأكثرها قابلية لإعادة الإنتاج، مع التركيز الكبير على البنية التحتية ( الطاقة، والنقل، والمياه على وجه التحديد ) اللازمة لإعادة إحياء العملية الإنتاجية في سياقها الأوسع.
تهدف هذه المرحلة إلى البدء بإعادة رسم ملامح الاقتصاد السوري المتكامل، بعد أن تكون جميع القطاعات قد رسمت حدودها الخاصة، على نحو يظهر حاجات وإمكانات التشابكات الأمامية والخلفية مع باقي القطاعات، وتتسارع خلال هذه المرحلة عملية تشكّل سلسلة خلق القيمة المضافة، عن طريق زيادة الترابط القطاعي البيني، بحيث تصبح عملية جعل مخرجات بعض القطاعات مدخلات للقطاعات الأخرى عمليةً أكثر منهجية وأكثر كثافة، ويعدّ القطاعان الزراعي والصناعي من الأمثلة التي هي أكثر حضوراً خلال هذه المرحلة، كما يعدّ تفعيل وتوسيع أنشطة الصناعات الغذائية من أكثر الملفات أهمية في هذا السياق، وتجدر أيضاً الإشارة إلى الأثر الإيجابي الكبير المنتظر من تفعيل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، في هذه المرحلة لإنعاش الاقتصاد السوري.
وتنطوي هذه المرحلة على واحد من أهم الأهداف الثانوية، وهو تعزيز مبدأ (التمويل الذاتي) للعملية التنموية، والبدء بقطف ثمار التشابكات الأمامية والخلفية، التي يعاد إنتاجها، كما تشكل هذه المرحلة، الأرضية الضرورية لإطلاق مشروع مكافحة «الركود التضخمي» وهو الطريق نحو الاستدامة التنموية في المرحلة التالية.
تشهد هذه المرحلة تشكّل هوية الاقتصاد السوري الحديث حيث يجري خلالها وضع السياسات والآليات التي تضمن استدامة التنمية بأبعادها المختلفة، قطاعياً وجغرافياً وفئوياً، وتركز على ربط الأبعاد المختلفة السياسية والاقتصادية، والمؤسساتية والاجتماعية.
وتتميّز التدخلات في هذه المرحلة عن سابقاتها بأنها يجب أن تكون مبنية على رؤية يتمّ تبنيها عن طريق حوار وطني تنبثق عنه مجموعة من الأهداف المتوسطة والبعيدة الأمد، تستهدف (إعادة هندسة الاقتصاد السوري) وتحدّد هوية الاقتصاد السوري، المرتكز إلى (المؤسسات المرنة) القادرة على حمل مشروع البيئتين التحتية والفوقية الجديدتين والحديثتين في سورية في ما بعد الحرب، واستيعاب وضم جميع الهويات الفردية، تحت لوائه، وإرساء مفهوم (التشاركية) بمعناه الواسع.
وفي هذه المرحلة تبرز معالم التكامل بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة كما تنطوي هذه المرحلة على التصدي للأسئلة (الصعبة) في الاقتصاد والمجتمع السوريين؛ وسيجري فيها دراسة وإظهار العوامل التي ظهرت وتفاقمت أثناء الحرب، أو استبعادها أو الحد منها، والتي ساهمت في تفاقم مشكلة (الركود التضخمي).
كما سيجري التركيز في هذه المرحلة، على المفصل الرابط بين (الاقتصادي) و (الاجتماعي) بحيث يصبح الاقتصاد وسيلة لتحقيق رفاهية المجتمع على مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع، وسيكون توسيع الطبقة الوسطى في المجتمع السوري واحداً من أهم معايير الحكم، على مدى النجاح في تحقيق أهداف هذه المرحلة.
ويبرز أهم التداخلات بين معطيات هذه المرحلة من جهة وعمليات البناء المؤسسي من جهة ثانية بحيث تتيح الهوية الاقتصادية الجديدة للمؤسسات التحرك بمرونة للاستفادة من البنية الهيكلية التي تم التأسيس لها في المرحلتين السابقتين وتكون المؤسسات في هذه المرحلة عاملاً مساعداً في تسهيل وتسريع الأداء الاقتصادي ( تخطيطاً، تمويلاً، متابعة، تقييماً، محاسبة، … ) بحيث تتحدد مسؤوليات النجاح والفشل بوضوح، ليصار إلى تعديل التدخلات بناء على هذه المتابعة.
يتألف البرنامج الوطني التنموي لسورية في ما بعد الأزمة، من المحاورالخمسة المترابطة التي ذكرناها (منطلقات وأهداف البرنامج) ولكل محور من هذه المحاور تفاصيل معمّقة، ورؤية حكومية ناضجة وراسخة فعلياً تنمُّ عن تأمّلٍ عميق، ومحاكاةٍ منطقية للواقع الذي آلت إليه سورية بعد هذه الحرب الوحشية الظالمة التي تُشَنُّ عليها، ومع اقتراب العام الجديد القادم للبدء رسمياً بحلقات تنفيذ هذا البرنامج الوطني الكبير، تكون الحكومة السورية قد حقّقت إنجازاً كبيراً، بل ومُفاجئاً، ولاسيما أن مسيرة الأحداث العملية على الأرض تؤكد أن البرنامج قد ابتدأ فعلاً قبل أن يبتدء.