لنتفق بدايةً على “حماية الصناعة الوطنية”.. لكن هذه الحماية يفترض أن تقوم على أسس متينة تحقّق الاستمرارية، لا أن تكون مجرد ومضة تندرج ضمن سياق الاستعراض الإعلامي.
وإذا ما تناولنا إشكالية تشميل مادة الأقمشة بالمرسوم التشريعي رقم 172 القاضي بتخفيض 50% من الرسوم الجمركية على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج، فقد سبق لنا وفي أكثر من مناسبة توضيح موقفنا من هذا الأمر، وإعلان اصطفافنا لجهة تكريس صناعة النسيج والألبسة كمكوّن عريق من مكوّنات الاقتصاد الوطني، لكن يبرز لدينا في هذا المضمار حيثية تستدعي بالضرورة الأخذ بها لضمان استمرارية هذه الصناعة، مفادها أن توفر الأقمشة والنسيج اللازمين لصناعة الملبوسات لا يرتبط فقط بالطاقة الإنتاجية لمعامل صناعة النسيج، وإنما أيضاً بالصناعة المكمّلة الأساسية وهي المصابغ، إذ تشير إحدى المذكرات الرسمية إلى أن الطاقة الإنتاجية الحالية لصناعة الأقمشة للملبوسات تتحدّد بالطاقة الإنتاجية للمصانع وهي لا تتجاوز حالياً الـ8 مصابغ في حلب طاقتها الإنتاجية تتراوح ما بين 2-4 أطنان يومياً فقط، و4 مصابغ في دمشق بطاقة إنتاجية ما بين 2- 5 أطنان يومياً، في حين أنه توفرت قبل الأزمة طاقات تشغيلية للمصابغ وصلت إلى 500 مصبغة.
مبررات
إن حماية الصناعة الوطنية تتركز على مبررات موضوعية مهمّة تمكِّن الصناعة المحلية من النمو والتوسع وحمايتها من المنتجات البديلة والمستوردة، وبالتالي فإن حماية الصناعة الوطنية للأقمشة يجب –ووفق هذا المبرر- أن تؤدي إلى نمو وتوسّع صناعة القماش المحلي، إلا أن تكلفة توسع هذه الصناعة كبيرة جداً، فهي صناعة كثيفة رأس المال وتعتمد على ضرورة توفر المصابغ الكافية لتلبية احتياجات صناعة القماش، إذ أن تكلفة إنشاء مصبغة حديثة بطاقة إنتاجية 10 أطنان يومياً –أي 300 طن شهرياً- تتراوح وفقاً لبعض الدراسات ما بين 4.5– 5 ملايين دولار، وإذا ما أردنا بسياسة الحماية إحلال الإنتاج المحلي محل الاستيراد، فهذا يعني أننا بحاجة إلى 20-30 مصبغة جديدة لتلبية احتياج جزء محدّد من أنواع الأقمشة التي تحتاجها صناعة الألبسة المسنرة، وبقيمة تصل إلى 100 مليون دولار.
أهم مرحلة
ومردّ تركيزنا على الصباغة يعود لكونها أهم مرحلة من مراحل إنتاج الأقمشة التي تبدأ بمرحلة الخيوط مروراً بالحياكة وغيرها، إذ تعتمد جودة القماش على هذه المرحلة، وتشير إحدى الدراسات إلى أنه كان في سورية قبل الأزمة –كما أسلفنا- أكثر من 500 مصبغة ذات جودة متدرجة من العالية إلى الوسط إلى الضعيفة، أما الآن فيوجد 12 مصبغة دون الوسط، وذلك وفق ما بيّنته إحدى الدراسات.
وفي السياق نفسه خلصت مذكرة صادرة عن اتحاد المصدّرين تمّ رفعها إلى رئاسة مجلس الوزراء، إلى جملة ملاحظات أبرزها أن ارتفاع تكلفة الأقمشة بإخضاعها لرسوم جمركية مرتفعة أو الحدّ من استيرادها أو عدم اعتبارها مادة أولية، بهدف حماية صناعة القماش، يتطلّب توفير ما لا يقل عن 100– 150 مليون دولار من الاستثمارات في قطاع الصباغة، إضافة إلى استثمارات أخرى في قطاع الحياكة لتلبية حاجة السوق من القماش، والحفاظ على استقرار ونمو صناعة الألبسة، كما يتطلّب مراعاة الفترة اللازمة لتأمين هذه الاستثمارات ووضعها موضع التشغيل، فهي استثمارات تعتمد على التكنولوجيا الصناعية وعلى رأس المال.
وأشارت المذكرة إلى أن ارتفاع تكلفة الأقمشة من شأنه أن يؤثر سلباً وبصورة قوية على الصناعات التي تعتمد عليها كلياً كمكوّن رئيسي في الإنتاج وخاصة الألبسة، مما يعرّض صناعة الألبسة للتراجع وخسارة السوق المحلية وسوق التصدير، وخروج أعداد متزايدة من الأيدي العاملة إلى البطالة، إضافة إلى أن تطوير صناعة الألبسة من شأنه التوسع الكبير في الأيدي العاملة وتأمين فوائض رأسمالية لازمة لدى الصناعة النسيجية في سورية، والذي من شأنه تدريجياً أن يساهم في ترميم المراحل السابقة للإنتاج في الصباغة والحياكة، بحيث تتوافر تدريجياً في الاقتصاد الوطني الاستثمارات اللازمة للتوسّع في صناعة الأصبغة والقماش.
بيانات
واستندت المذكرة في طرحها هذا إلى بيانات جمركية، توضح أن وسطي كمية القماش المستورد شهرياً 3200– 3500 طن أي 40– 24 ألف طن سنوياً، ما يشير إلى ارتفاع جوهري بقيمة القماش المستورد، حيث وصلت نسبة الزيادة إلى 100% في العام 2017 مقارنة مع العام 2016 بما يزيد عن 120 مليون يورو حتى آب 2017، وترتبط هذه الزيادة بتطور صناعة الألبسة بدرجة كبيرة، إضافة إلى أن اختلاف معدلات النمو بين الخيوط والأقمشة يعدّ مؤشراً على اختلاف نوعيّ في مدى سرعة ومرونة نمو مراحل الإنتاج في الصناعات النسيجية، حيث تتميّز صناعات المنتج النهائي “الألبسة” بسرعة ومرونة أكبر في التوسع والإنتاج لاعتمادها على الأيدي العاملة وانخفاض رأس المال اللازم، مقارنة بباقي مراحل الإنتاج “الحياكة والصناعة”.
إذاً.. إن ضمان استمرارية صناعة الألبسة يتطلّب ترسيخ مراحل الإنتاج السابقة لهذه الصناعة وخاصة المصابغ وتطويرها، بحيث تستطيع مواكبة تطور صناعة الألبسة والنسيج ذات البعد التاريخي والعريق في اقتصادنا الوطني. ..عن البعث