في عام 2013 وكانت الحرب في أوجها وتشهد فصولها الأصعب .. لم يكن من السهل أمام الكثير من الصناعيين الاستمرار فكيف لهم أن يبدأوا عملاً جديداً وأن يصنعوا اسماً جديداً ويقررون إطلاقه من بلد أوجعت الحرب صناعته وآلمته كثيراً .
عندما سألت الصناعي “نوري سمحا ” والذي ساهم مع شقيقه “أحمد سمحا ” بتصنيع وإدخال ماركات عالمية إلى سورية مطلع تسعينيات القرن الماضي و كانت بمثابة تحول ونقلة لصناعة النسيج والألبسة الوطنية .
عندما سألته متى وُلدت ” تاليس ” الماركة السورية التي ظهرت وتمددت خلال فترة قصيرة محدثة علامة فارقة حقيقية في صناعة الألبسة ..
قال لي : في عام 2013 وكانت الحرب في أوجها وتشهد فصولها الأصعب اتخذنا قرارنا بتشغيل المعمل الذي لم يكن يقع في منطقة آمنة عملياً وحيث لم يكن العمل سهلاً بالمطلق ولكن بدأنا .. وكان لا بدّ من قرار جريء وكانت “تاليس ” التي أردناها ماركة سورية للجميع .. كان لابد من صناعة اسم سوري نستطيع أن ننطلق به في أسواقنا وأيضاً نحو الأسواق الخارجية .
يقول الصناعي نوري سمحا : بينتون وستيفانيل وغيرها من ماركات الألبسة الشهيرة التي استطعنا تصنيعها في سورية بكفاءة عالية طوال عشرين عاماً وتمكنا من خلالها التأسيس لفكر جديد وعصري ومواكب لصناعة الألبسة في سورية بما يجعلنا داخل الموضة وتطوراتها , وعمليا يقول “سمحا ” لقد خلقت الحرب التحدي لدى الكثيرين ليبدعوا وليناضلوا من أجل الحضور في قلب العالم بمختلف اتجاهاته ومناحيه , ومن أجل ذلك نلاحظ أنّ الصناعة السورية ظلت قادرة على مواكبة التطور والموضة والحداثة ولم تخرج منها بل على العكس تمكنت من إحداث تطورات حقيقية ومؤثرة تنسجم وتوجهات الذوق المحلي والتغييرات التي طرأت عليه.
في الحقيقة أستطيع أن أقول بجرأة أن المعامل التي صنعت لماركات عالمية معروفة وفي مقدمتها ” بينتون وستيفانيل ” هي التي أدخلت الموضة بشكلها المواكب الى سورية ومكنت الكثير من السوريين من ارتدائها بسهولة نظراً لكونها كانت متاحة للشرائح الواسعة من الناس نتيجة سعرها المنافس وجودتها وأيضا مجاراتها لخطوط الموضة .
وهذا ما فتح الأبواب واسعة أيضا لدخول المنتج السوري إلى أسواق تصديرية جديدة حيث لامس هذا المنتج ذوق المستهلك الأوروبي رغم المنافسة الشديدة وتمكن من أن يقدم سلعة بجودة عالية وسعر مناسب جدا.
عائلة سمحا أو لنقل الاخوين ” نوري وأحمد ” ومعهما الأخ الثالث ” باسم ” الذي كان يعمل معهما أيضا .لم يستسلما لظروف الأزمة وأرادا مقاومتها معتمدين على خبرة تمتد لسنوات طويلة فخرجا من رحم الحرب بمجموعة من الماركات السورية في مقدمتها : “تاليس ” لنوري و”أيس كيوب “لأحمد ..
فظهرت التجربة والخبرة بوضوح خاصة وأنّ الأبناء كانوا قد كبروا وبدأوا ينخرطون في المهنة متحفزين وتواقين لأن تكون لهم بصمات خاصة لجهة التواصل مع خطوط الموضة وألوانها وكل جديد يطرأ عليها .
يقول الصناعي “نوري سمحا ” : الذي بدأ يتأكد أنّه انتصر لسنوات طويلة من العمل ولم يتركها تذهب هباءً
“لم يكن الأمر سهلاً في ذلك العام القاسي على كل البلد ويقصد عام 2013 .. فأن تقرر افتتاح مصنع لانتاج الألبسة خاصة بينما الحرب في أوجها والمعامل بين إغلاق ونهب وتدمير .. فقد خسرنا كل الماركات والأسماء التي نتاجر بها ونعمل و ونصنع لها..
لكن في نفس الوقت لم يكن بالنسبة لنا سهلاّ أن نتوقف .. فقررنا أن نعود لمصنعنا ..
في ذات يوم يقول ” سمحا ” سألت نفسي ولماذا علينا أن نتوقف عن الإنتاج , كان هناك إيمان عميق في داخلي أن سورية ذاهبة الى انتصار وأنّ العودة للعمل ستكون جزءا من هذا الانتصار فكلنا مسؤول من مكان عمله .
وفي الحقيقة كان هناك ما يقول لي : لماذا علينا التوقف أصلا طالما أن الحلول متوفرة ويمكن الالتفاف على الكثير من الصعوبات والتعامل معها بحنكة وروية .. ومتى كان الصناعي السوري يستسلم للظروف العابرة مهما كانت صعبة ؟
لقد احتجنا لبعض الجرأة والشجاعة والأهم امتلكنا الإرادة والقراءة الصحيحة للسوق ولواقع البلد وامتلأت قلوبنا بالإيمان بأنّ الأمور وبفضل حكمة الجيش والقائد ستذهب الى إنفراج , وهذا ما حدث كما تلاحظون جميعا , البلاد انتصرت وعجلة الاقتصاد بدأت بالدوران .. وما كسبناه نحن في تاليس هو أنّ انتاجنا جاهز وهو الآن موجود ومنافس بقوة , وبدأ الناس يألفونه ك” بينتون “و “ستيفانيل ” وغيرها من الماركات الأخرى التي عملنا بها طوال سنوات .
في ذلك العام يتابع “سمحا ” حديثه : أعدنا افتتاح المصنع رغم كل الصعوبات التي خلقتها الحرب لجهة نقص العمالة و الوضع الأمني الصعب خاصة في محيط العاصمة ..
بدأنا بالتصنيع متطلعين الى النجاح ولا شيء غيره فلم يكن هناك أي مجال للتراجع .
توجهنا ب “تاليس ” إلى دبي كمحطة اختبار كبيرة بالنسبة لنا ولمنتجنا الذي حرصنا على أن تكون ولادته قوية ومهمة ولا يقل مستوى عن الماركات التي قمنا بتصنيعها طوال عشرين عاما .
لعله كان تحديا كبيرا . ولعل صعوبة افتتاح محلات لماركتنا الوليدة داخل المدن السورية في البداية جعلنا أولا نطور اسم ” تاليس ” فقمنا بافتتاح محل كبير للجملة في دبي وبدأت منتجاتنا تنتشر في الامارات ودول أخرى عبرها مثل الصومال والسنغال ونيجيريا وحتى روسيا وغيرها .
إلى أن بدأنا بالخطوة التالية ودون فارق زمني كبير بنشر “تاليس ” في سورية عبر افتتاح محلات للماركة الجديدة في المدن السورية .
والآن نخطط لتواجد قوي في العراق وبعض الدول الأوروبية .إذ وبسبب علاقتنا المهمة بالسوق الايطالية قمنا بافتتاح محل جملة في إيطاليا وهو يحقق حضورا مهما نتيجة قدرة “تاليس ” على المنافسة بالسعر والجودة والموضة . وهنا لا بد من الإشارة الى نقطة في غاية الأهمية وهي علاقتنا مع إيطاليا وكيف ساعدتنا في الحصول على أحدث خطوط الموضة وتفاصيلها .
اليوم يقول ” سمحا ” لدينا خميسن محل ولدينا خطة متكاملة للتوسع ومضاعفة عدد المحلات خلال خمس سنوات .
“نوري سمحا ” الذي تجلس بجانبه ابنتيه كجناحين له تساعدانه في العمل باحترافية وكل في اختصاصها
البنت الكبرى واسمها … ” آلاء ” تمتلأ بالحيوية و يبدو أنّ لها دور مهم ورئيسي في الإدارة وهي خريجة بكالوريوس إدارة أعمال و تهتم بالتواصل مع بيوت الأزياء سعيا وراء امتلاك ناصية المواكبة لما هو موجود في العالم .
البنت الوسطى واسمها “أية ” يظهر في عينيها الكثير من الذكاء والهدوء , تعمل في اختصاص تصميم أزياء ويبدو أيضا أنّ دورها في غاية الأهمية .
أما البنت الثالثة واسمها “لانا ” لم تكن موجودة أثناء زيارتنا للمصنع وقيل لنا أنها تهتم بمحلات دبي وهي متخصصة بالديكور
فتيات “سمحا ” تؤكدن استمرار نهج العائلة في الصناعة . فالأب عندما بدأ كان في عمر ابنتيه . واليوم تجتمع خبرة الوالد وعلم وحماسة الأبناء و رضا العاملين وتشجيعهم له في كل انجاز وكل خطوة .
تسعى بنات سمحا ليكون تواجد “تاليس ” متكاملا وقويا فهن تحملن مفاهيم الحداثة والتطور والمواكبة وتحرصان على مخاطبة أحدث خطوط الموضة مستفيدات من العلاقة الطويلة لعائلتيهما مع الشركات الإيطاليه ..
اللافت للنظر هو قيامهما ” آلادؤ وأية ” وفريق عملهما بقراءة متأنية للموضة وخطوطها وألوانها والقيام بإسقاطات متوازنة ودقيقة على الذوق المحلي خاصة و أن تغييرات مهمة وعميقة أصابت هذا الذوق واتجاهاته بعد سبع سنوات من الحرب ..
لتأتي ” تاليس ” كما شعارها “للجميع ” تناسب كل الاذواق و مع رقة و احترافية التصميم والتفصيل والخياطة والعرض الذي لايخلو من كفاءة ومعرفة تُظهر مخرجات ” تاليس” كعالم متوازن من الألوان والموديلات الجميلة والمناسبة لكل الأذواق , والأهم هو أسعارها المدروسة جدا وحيث لايبدو الوصول إليها صعبا إذا لم يكن في الموسم ففي فترة التنزيلات .
و ما يلفت انتباهك في محلات ” تاليس ” أنّ تنزيلات الشركة حقيقية وليس فيها أي غش او استغباء لعقل المستهلك كما تفعل الكثير من المحلات والماركات .
يقول نوري سمحا : انخفضت أسعارالألبسة 30 % هذا العام نتيجة انخفاض واستقرار الدولار ومع الدعم الذي تم تقديمه للصناعة الوطنية لجهة تخفيض الرسوم الجمركية , فإن الألبسة المحلية تمكنت من خفض تكاليفها واذا ما انخفضت أسعار النقل نتيجة تحسن الوضع الأمني واختصرت الحلقات التي تقبض خارج القوانين وتمت مكافحة التهريب بذكاء فإن صناعة النسيج وكل الصناعات الأخرى ستشهد انخفاضا مهما في الأسعار لمصلحة المستهلك المحلي الذي أنهكه الغلاء وصار من حقه الحصول على منتج محلي عالي الجودة بسعر مناسب . خاصة وأن التهريب اتسع بشكل لا حدود له ولا بد من التعامل معه بقوة .
ورغم أنه صناعي فيعتقد “سمحا ” أنّه لا مانع من السماح بالاستيراد لكن ضمن ضوابط معينة فهذا يخلق منافسة ويؤثر إيجابا على المنتج المحلي . مشدداً على مكافحة البالة التي تدخل في ظلها ألبسة جديدة وستوكات وتصافي وهذا ما يؤثر على الصناعة الوطنية بشكل مباشر لجهة القدرة على المنافسة ؟
يقع معمل ” تاليس ” في منطقة صحنايا وحيث يمكن رؤية الكثير من المصانع الكبيرة والمهمة وقد عادت للعمل “دعبول للالمنيوم على سبيل المثال “.. بالاضافة الى مصانع غذائية وكيميائية , لا شك لقد عادت الحياة الى المعامل التي يقصدها يوميا عشرة آلاف عامل لينتجوا ويصنعوا تحت شعار ” صنع في سورية ”
تم تصميم المعمل بطريقة تضاهي المعامل في أكثر البلدن تطوراً , هناك نظام واضح للعمل ولتقسيماته وتوزيعه ويبدو واضحا أنّ العمل يتم وفق معايير عالمية وفي مقدمتها الأيزو ..
300 موظف نهضوا بمعمل ” تاليس ” .. وهو ما يؤكده الحاج “نوري سمحا ” الذي قال : لولا هؤلاء العمال لما تمكنا من المضي قدما في إعادة الحياة للمصنع ولا تمكنا ورغم الصعوبات والحصار من إيصال منتجاتنا الى الكثير من البلدان .
والأهم هو خلق ماركة محلية بمواصفات عالمية لتفتتح سلسة محلات متميزة في دمشق وعدد من المدن السورية ضمن إسلوب راق من العرض و التقديم ..
هل تذكرون كيف كانت محلات “بينتون ” تستقطب في عطلة نهاية الأسبوع الزوار اللبنانيين وهل تذكرون كيف كانت تحث المغتربين و السياح على الشراء كذلك هي محلات “تاليس ” وبعض الماركات الوطنية التي تشبهها ..
المحلات تغص بالمغتربين و الزوار الذين يجدون في قطعة “تاليس ” الذوق الرفيع واللون والموضة , والأهم يجدون النوعية الجيدة بالسعر المناسب والمنخفض قياسا لمثيلاتها في دول الجوار .
تم استقدام العمال الى المصنع بطريقة لاتخلو من بعد اجتماعي ينطوي على كثير من الرقي والانسانية , فبعد أن أصبح عدد العمال محدودا جدا عام 2013 ومع ظهور صعوبات حقيقية للتوظيف المباشر في المعمل عمد أصحاب ” تاليس ” الى الاعتماد على الجمعيات الخيرية .حيث تم استقدام النساء وتدريبهم تباعا في المعمل بإشراف فنيين ذوي خبرة عالية , إلى أن تم بناء فريق العمل المكون من 300 موظف وعامل الى جانب نحو 200 موظف في الصالات أغلبهم مسجل في التأمينات الاجتماعية وكلهم بمن فيهم سيدات تجاوزن الستين وحتى السبعين من العمر .خضعوا لتدريب وتأهيل وبشكل احترافي وبعضهم تم تدريبه في الخارج . والآن ” تاليس ” تنتج سنويا مليون قطعة ستتم مضاعفتها في غضون خمس سنوات من الان .
في مصنع ” تاليس ” تتنقل بين الأقسام النظيفة المنظمة وحيث يبدو أنّ هناك انسجام بين العمال وأصحاب العمل .
العمال يعملون بحب واهتمام ولعلهم يعبرون عن ذلك إن لم يتكلموا فمن حرصهم على العمل وتقديمه بأفضل ما يكون .
أما أصحاب العمل فقد بدوا قريبين جدا من عمالهم , يتحاورون معهم الى درجة أنّ صاحب المصنع ” نوري سمحا ” وعندما تشتد عليه الأمور يجد في الحديث مع سيدة سبعينية عونا لروحه وسلاما لقلبه ودفعا له للأمام وعدم الاستسلام .
بعد أن تكون زرت قسم التصميم واختيار الخيوط والألوان باقي التفاصيل ضمن حلقة العمل الأولية .. تنتقل الى أقسام الخياطة والتفصيل والقص والكوي والكحت .. لينتهي بك المطاف في صالة عرض يتم فيها اختبار شكل عرض الموديلات بشكل أولي تمهيدا لتطبيق إسلوب العرض في صالات البيع بطريقة تجذب إليها الزبائن وتشجعهم على اكتشاف عالم ” تاليس ” المليء بالألوان الجميلة والمتجانسة في موديلات غاية في الجمال والاتقان أغلبها صمم ليتوافق مع الذوق المحلي وذوق مستهلكي الاسواق المستهدفة .
في بداية الصيف الحالي كانت شوارع دمشق وعدد من المدن السورية مليئة بلوحات إعلانية ضخمة تتحدث عن ماركة سورية للجميع اسمها ” تاليس ” وهو ما دفعنا للبحث والسؤال عمن يقف وراء كل هذا الاتقان والجمال الذي يبدو أنّه مكتمل الحلقات والخطوات ويبشر بعودة الحياة لقطاع النسيج السوري . عن سيرياستيبس